الاثنين، 23 أغسطس 2010


د. مجدي الهلالي يجيب عن هذا السؤال: لماذا نحب حسن البنا؟




الله عز وجل هو المحبوب الأعظم الذي ينبغي أن يحبَّه المسلم، وأن يهيمن هذا الحب على قلبه ومشاعره، فيغلب ويعلو على كل المحاب الأخرى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ (البقرة: من الآية 165).

بل إنَّ المنطلقَ الأساسي لحبِّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- هو حب الله.. ألم يقل- صلى الله عليه وسلم-: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله..."؟! (رواه الحاكم، وقال: حديث صحيح الإسناد)

فحب الرسول- صلى الله عليه وسلم- واتِّباعه هو الترجمة العملية لحبه سبحانه ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 31)، وعلى المحبِّ الصادقِ في حبِّه لله- عزَّ وجل- أن يحبَّ ما يحبُه ربُّه ويبغضَ ما يبغضُه، قال- صلى الله عليه وسلم-: "أوثق عُرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله" (رواه الطبراني في المعجم الكبير)، فيُحب أيَّ إنسان بقدرِ ما يوجد به من صفات يحبها الله، ومِن ثمَّ فهو يحب المسلم الملتزم بأوامر ربه أكثر من المقصِّر في جنبه، ويحب أهل المساجد المحافظين على الجمع والجماعات أكثر ممن لا يحافظون على ذلك.

ويحب أهل الجهاد السائرين في الطريق الصحيح لتبليغ دعوة ربهم وإعلاء كلمته والتمكين لدينه أكثر من غيرهم من القاعدين، ويحب في القاعدين التزامَهم بالأوامر الأخرى أكثر من غيرهم من المسلمين المفرطين، وهكذا.

لماذا حسن البنا؟!
قفزت إلى الذهن هذه المعاني عندما تساءلت بيني وبين نفسي عن السبب الذي دفعنا ودفع الكثيرين لحب الإمام الشهيد حسن البنا؟!
إنه رجل قد قضى نحبه منذ عشرات السنين، ولم تكتحل أعينُنا برؤيته، ولم نتعامل معه عن قربٍ، فلماذا- إذن يحبه- ويسير على نهجه ويتبنَّى أفكارَه هذا الكمُّ الهائلُ من الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم؟!

لماذا تتمسك بمنهجه رغم مرور قرابة الستين عامًا على وفاته هذه الأصناف المختلفة، من علماء دين أفذاذ، ومن حَمَلة الدكتوراه والماجستير في شتى التخصصات، ومِن عامة الشعب.. رجالاً ونساءً.. شبابًا وشيوخًا.. عربًا وعجمًا؟ وكيف استطاعت دعوتُه أن تصل لأكثر من سبعين دولةً على مستوى العالم، رغم التضييقات والملاحقات التي يتعرَّض لها أبناء تلك الدعوة؟!

أمر محيِّر!!
لو كانت هناك مغانمُ ماديةٌ يتحصَّل عليها الفردُ نظيرَ التحاقِه بركْبِ جماعة حسن البنا- الإخوان المسلمون- لقلنا إن السبب وراء ذلك هو المصالح الشخصية، والمنفعة الذاتية، ولكن الواقع يخبرنا بأن العكس هو الصحيح، فكل مَن يسير في ركب هذه الجماعة فإنه مطالَبٌ بالتضحية من وقته وماله وراحته دون مقابل دنيوي.

إنه أمرٌ محيِّر بالفعل لو نظرنا إليه بحسابات البشر!! رجل فقير يموت وهو في الثالثة والأربعين من عمره، في وقتٍ كانت وسائل الإعلام محدودة التأثير، ومع ذلك تستمر دعوته إلى الآن، بل هي في صعودٍ دائمٍ، وتنامٍ مستمرٍّ، على الرغم من محاربة الحكومات لها، ومحاولة طمس وتشويه صورتها وصورته واسمها واسمه في شتى المناسبات والمحافل.

نعم.. إن حسابات البشر المادية تقف عاجزةً عن تفسير ظاهرة حسن البنا، أما المؤمنون فيرون فيها مظهرًا من مظاهر رضا الله وحبه لهذا الرجل، ولا نزكي على الله أحدًا.. ألم يقل- صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض" (رواه البخاري).

هذا من ناحيةٍ، ومن ناحية أخرى فإن حبَّنا وحب الكثير من المسلمين لحسن البنا- حبًّا في الله عز وجل- له العديدُ من الأسباب، لعلَّ مِن أبرزِها تجديده وإبرازه للفهم الصحيح للدين، وقيامه- بعون الله- بتنشئة جيل جديد يتمثل فيه هذا الفهم الصحيح للدين، وجهاده العظيم من أجل الإسلام والذي تُوِّج باستشهاده- رحمه الله- وإليك أخي القارئ بعض التفصيل حول هذه الأسباب الثلاث.

الفهم الصحيح
عاش المسلمون في القرون الأخيرة وهم يتخبَّطون في الجهل والظلام، وانزوى مفهوم الإسلام في أذهانهم ليصبح- في الغالب- قاصرًا على الشعائر التعبدية، وانحصر مكانه الفعلي ليصبح في المسجد فقط، ومِن ثمَّ فلم يعُد له مكانٌ في توجيه الحياة، واستقت الأمة من الحضارات المختلفة- وخاصةً الغربية- النظم التي تُسيِّر بها حياتها، من سياسة واقتصاد وثقافة وقانون..

ولقد أدى انزواءُ الإسلام في هذا المفهوم الضيِّق إلى ضياعِ هوية الأمة، وفقدانِها لمصدر عزتها، وافتقادِها لمعالم المشروع الحضاري لنهضتها وقيامها بدورها الرائد في الشهادة على الناس.

ووسط هذا الظلام ألهم الله عز وجل الشابَّ حسن البنا بعد دراساتٍ طويلةٍ قام بها، واحتكاكٍ بالعلماء المُصلِحين، وحرصٍ وحرقةٍ على الدين، وحزنٍ شديدٍ على ما آلت إليه أوضاع المسلمين.. ألهمه ووفقه لنفض الغبار عما علق بمفهوم الإسلام في الأذهان، وإبراز صورته الناصعة الشاملة المتكاملة والتي تفي بكل حاجات الفرد والمجتمع، وتتعامل مع الحياة بكل صورها على أنها الموجهة والقائدة لها.

فلا يمكن أن ينصلح حال الأمة إلا إذا صلح تَصوُّرُها عن دينها أولاً، وأنه منهجٌ متكاملٌ للحياة، لذلك نجد حسن البنا- رحمه الله- يركِّز في كتاباته وخطبه ودروسه على معنى شمول الإسلام.. تأمل معي ما قاله في إحدى مؤتمرات الدعوة (المؤتمر الخامس): "نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملةٌ، تنتظم شئون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعقل، ومصحف وسيف".

الدين والسياسة
وفي مؤتمرٍ آخر (مؤتمر طلاب الإخوان) نراه يُزيل الغبارَ عن مفهوم علاقة الدين بالسياسة، والتي لا يزال البعض إلى الآن يرى أن الدين ينبغي أن يبتعد عن السياسة، فيقول- رحمه الله-: "المسلم مطالَبٌ بحكم إسلامه أن يُعنى بكل شئون أمته، ومَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".

ويستطرد قائلاً: "قلما تجد إنسانًا يتحدث عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلاً، ويضع كلَّ واحدٍ من المعنيَيْن في جانب، فهُما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، ومِن هنا سميت هذه جمعيةً إسلاميةً لا سياسيةً، وذلك اجتماعٌ دينيٌّ لا سياسةَ فيه، ورأيت في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومنهاجها (لا تتعرض للشئون السياسية).. فحدثوني بربكم أيها الإخوان: إذا كان الإسلام شيئًا غير السياسة وغير الاجتماع وغير الاقتصاد وغير الثقافة.. فما هو إذن؟! أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر؟! ألهذا أيها الإخوان نزل القرآن نظامًا كاملاً محكمًا مفصلاً﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ﴾ (النحل: من الآية 89)" (انتهى كلامه رحمه الله).

انتصار الفكرة
لقد كانت فكرة "الإسلام دين ودولة" غير مقبولة عند عموم الناس بصفة عامة، وعند الطبقة المثقفة بصفة خاصة، ولكن بعد جهادِ هذا الرجل المبارك وأتباعه مِن بعده انتصَرَت الفكرة إلى حدٍّ كبيرٍ، وأصبحت أطروحة (الإسلام هو الحل) لها أرضيةٌ واسعةٌ في الواقع، ولم تعُد مقولةُ "الإسلام دين ودولة" مستغربةً حتى عند الحكام، وتبنَّى الكثيرُ من الدعاةِ من خارج الإخوان مفهومَ شمول الإسلام بمعناه الحقيقي.

التربية على شمول الإسلام
فإن قلت: ولكن بعد أن انتصر مفهوم شمول الإسلام، واقتناع الكثيرين به، فما المبرر لوجود الجماعة؟ ولماذا هذا الالتفاف العجيب حولها في كثير من البلدان؟!

الإجابة عن هذا التساؤل تدفعنا للحديث عن السبب الثاني الذي ميَّز الله به الإمام حسن البنا- رحمه الله- ألا وهو تبنِّيه لأسلوب التربية لإقامة الإسلام في نفوس الناس.

فمشكلة المسلمين ليست في الفهم فقط، بل في التطبيق كذلك، والتطبيق يحتاج إلى مناهج متدرِّجة ووسائل عملية وتعاهُد ومتابعة وممارسة ميدانية، وهنا تظهر عبقرية هذا الرجل- الملهم الموفَّق- الذي لم يكتفِ بدعوته النظرية لعودة الناس إلى الإسلام بمفهومه الشامل، بل حوَّلها إلى واقعٍ عمليٍّ، من خلال وسائل التربية المختلفة؛ ليرَى الناس شمول الإسلام يتمثَّل في جيلٍ جديدٍ لم يعهد مثله من قبل.

ولو كان حسن البنا- رحمه الله- قد اكتفَى بالكتابة والخُطَب والدروس لتبليغ دعوته لَمَا صَمَدت هذه الدعوة ولَمَا كُتب لها النجاح ولَمَا انتشرت هذا الانتشار، وكيف لا والحق لا بد له مِن رجالٍ يقيمونه في أنفسهم أولاً، ويحملونه إلى الناس ثانيًا؛ لذلك نراه- رحمه الله- قد اتَّضحت لديه هذه الرؤية للإصلاح بشكلٍ غيرِ مسبوق.

تأمل معي ما قاله لإخوانه في رسالة (بين الأمس واليوم): "إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء.. كل ذلك لا يُجدي نفعًا ولا يحقق غايةً، ولا يصل بالداعين إلى هدفٍ من الأهداف، ولكنْ للدعوات وسائل لا بد من الأخذ بها والعمل لها، والوسائل العامة للدعوات لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، ولا تعدو هذه الأمور الثلاث:

1- الإيمان العميق.
2- التكوين الدقيق.
3- العمل المتواصل.

والعجيب أنه- رحمه الله- كان يذكِّر إخوانه والناس جميعًا بأنه لا بد من سلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس، لإيجاد جيل جديد، الله غايته، والرسول قدوته، والقرآن دستوره، والجهاد سبيله، والموت في سبيل الله أسمى أمانيه.. فمِن أقواله رحمه الله:

إن غايةَ الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138)، وإن وسيلتهم في ذلك تنحصر في تغيير العرف العام، وتربية أنصار الدعوة على هذه التعاليم؛ حتى يكونوا قدوةً لغيرهم في التمسك بها والحرص عليها والنزول على حكمها.

استشهاد حسن البنا
تحرَّك حسن البنا- رحمه الله- بالدعوة في كل مكان، وجابَ مدنَ مصر وقراها، لدرجة أنه قد زارَ قرابة ثلاثة آلاف قرية، وامتدَّت الدعوة خارج القطر المصري، ولم ينسَ في خِضَمّ نشرِه لهذه الدعوة المباركة هدفَه الأساسيَّ في تربية جيل جديد، واستمرَّ على ذلك منذ عام 1928 وحتى آخر لحظة في حياته، والتي انتهت بشكلٍ عجيبٍ يخدم الدعوة ويثبِّت أركانَها، فبعد أن ظهرت ثمارُ دعوته- متمثلةً في جيلٍ من الشباب الواعي الذي يؤْثِر الناحيةَ العمليةَ على الناحية النظرية، والذي يسعى إلى التضحية في سبيل الله بكل ما يملك، وظهر ذلك جليًّا في أحداث حرب فلسطين عام 1948م وما كشفت عنه مِن بطولاتٍ عظيمة لشباب الإخوان- التقَت كلمةُ الغرب مع كلمة القصر على ضرورة التخلُّص من حسن البنا، الذي أصبح وجودُه خطرًا يهدِّد عروشَهم، ونجَحَت المؤامرة، وكان لحسن البنا ما أرادَ مِن أن يلقَى الله شهيدًا في سبيل نصرة دينه؛ ليروي بدمائه شجرة الدعوة، وتكون وفاته سببًا جديدًا في حبِّنا له في الله عز وجل.
+ نوشته شده در Wed 12 Jul 2006ساعت 19:3 توسط مسلم | نظر بدهید

ليست هناك تعليقات: